بسم الله الرحمن الرحيم
من هنـاك تنبـع العتمـة ..
يتأرجح الظـلام لحظـة ثـم يطغى ..
من هناك ... يلف الحرمان عالماً من الموتى ... ويعلو الطنين ..
ينسكب في الآذان المبللة ببارودٍ ميت ... كحديدٍ مصهور ...
يزيد الحرقة في عيونٍ ناعسةٍ ذبلى ...
لتلك الجميلة هناك ... أرفع النداء
اعذريني .. يا غزة يا مدينةً تُنبت أنبياء
بالحنين ... يشعلون التنور نارا ً....
وبالحنين ... يعجنون القمح خبزاً ...
ومن مــاء المقل .. يرسمون فوق الملامح ... ملامح أخرى ..
يخبئون الضلع الكسير .. في بيت شعرٍ معطّر ..
عن حسناء زهرية الوجن .. تجمع الياسمين .. من فوق سور الحديقة القديم
وتهديه في الصباح .. لثلة من الشبان يحملون ..
فوق الاكتاف المنهكة ألمــاً .. من بالامس كان من رفاق الدرب الطويل ..
ويسدلون الستار عن آخر فصول قصةٍ لاتنتهي .. ببشرٍ يستوطن النفوس لأبديةٍ مقيدة ..
اعذريني ... يا سماءً تمطر بلايـا .. وسحاباً لا يعرف الغناء ..
اعذريني يا غزة .. يا أزقةً غبارها الأشلاء
أنا لا أملك أعنتي يا خديجة ... لا أملك الا صوتي فاخبريني ماذا أحيله ...
أنا لم اولد في مدرسة سحر ولم اتعلم فنونه ...
فسامحي وصفتي ان لم تكُ وصفةً مضمونة ...
ولم يغدُ صوتي المجروح رغيف خبزٍ مرّقع ..
كذاك البيت النائم في آخر الطريق ..
يوقظ الغربان كل يوم على أصوات أنينه المحموم ...
ليصبحوا مُرمدين .... يفتشون عن صدى الأنين ...
دون أن يلحظوا الباب المتأرجح بين عالمين ...
له بعد الندى زئير وفي المسا زئير ....
سامحي وصفتي ... ان لم تكُ وصفةً مضمونة ...
ولم يغدُ صوتي المقتول ... دثاراً صوفياً تحيكه ريشةٌ ممزقة ... تنثر الألون في الهواء ...
ينساب فنها .. بسمةً مخبأةً في ظفيرة ....
وترسم الدفء ... بقعاً نائيةً على الجسد النحيل ...
لا ترد البرد ولا حتى النسمة العليلة ...
ليبق الجليد ... ييبس الأطراف منك وينحر الابناء ..
اعذريني يا غزة يا طفلة تسربلت بالدمــاء
حتى الاحلام يا صديقتي لا أُجيدهـا ...
لكنتُ رسمتُ لكِ بندقيةً عتيقة ... في صدئها المحمر خجلا ً...
رائحة التراب المبلل بعد المطر ....
والكستناء الذي تطهوه الجدة العجوز تحت الشجرة القديمة ... وعلبة الحناء الصغيرة ...
لكن الاحلام ... مسجونة في هدب الشقاء ...
فاعذريني يا غزة يا قطرة مدفونة في طيات مــاء
ليتني يا حبيبة ... أُحيل صوتي صرخةً ... في قاعة يلوكها الهواء ..
تسكنها الخيوط والعيدان ... علّ الروح تدب في جدرانها وعيناها تبصران ..
أن الشمس تبقى رهينة خلف الجبال ... تقسم الا تعود ... حتى تدفعين الزكاة ..
وزكاة الصخر ثقيلة يا خليلة ...
عبرة مخنوقة في رحم ثكلى ... أبجدية تلّقن الحروف عبارات النعي وابتلاع البلوى ..
وآخر الزكاة ... شراب من دمــاء
فاعذريني يا غزة .. يا حشرجة مولودة في فم الأحيــاء
تنام العيون يا سبية ... وأنتِ تنام فيكِ حتى قطع الحجارة
واللافتة المتكأة على باب العمارة ...
كلها يلفها السواد ... تشحين به كفنا في سويعات النهار القليلة ..
ورغم الصمت تُبعثين .. لحن قيثارة ....
عجيبةٌ أنتِ ...
يخمدون النار فيك ِ ... يطفئون حتى أعواد الثقاب .. ومن خِضّم الظلمة تنهضين ... نبض شرارة ...
ينحرون الوقت تحت قدميكِ .... يغتالون الفجر ... يجعلون الصُبح أعمى ... معصّب العينين ..
ويُخفون خصل الشمس ... تحت أكمامهم ... خلف أصابعهم ... في وريقاتهم المدهونة حقدا ...
لكنك .. ومن بين حطام النفوس ... تلوحين لذاك الفجر الزاحف من بعيد ... وتعلنين ...
انك للرازحين تحت الظلام ... تحت القيود والاغلال ... منارة ..
فسامحيني ... واعذريني ... لانني .......
ابتسامة هشة ... همسة في هوة لحد عميق .. لا تجيد سوى البكاء ...
وسكب الدموع فوق الورق .. بكل الالوان .. أسطره بكل الالوان ...
وأغلق الكتاب عند الصفحة التي تسبق الأخيرة ... وبالحشا الملآن غضباً .. أبوح لكِ ..
اعذريني ....... اختنق في داخلي النداء ....
أيا غزة ....... يا أرضاً تُنبت أنبياء ........